لم تفلح التشكيلة الحكومية الجديدة التي أدت اليمين الدستورية في مصر أمس واحتفظت بأكثر من نصف وزراء الحكومة المستقيلة، في تهدئة المتظاهرين الذين يستعدون اليوم للنزول بتظاهرات مليونية في مختلف أنحاء البلاد، خصوصاً في ميدان التحرير في قلب القاهرة، في حين أصدر الجيش موقفاً لافتاً بإعلانه أنه «على وعي ودراية بالمطالب المشروعة للمواطنين الشرفاء» وتعهد عدم استخدام القوة ضدهم.
وقال البيت الأبيض أمس انه «لا يفاضل بين الشعب المصري الموجود في الشارع وبين أولئك الموجودين في الحكومة». وحض على «مفاوضات مجدية بين مختلف الجماعات بما في ذلك تشكيلات المعارضة».
ووزع متظاهرون مناشير في مختلف أنحاء البلاد دعت إلى المشاركة في تظاهرات مليونية اليوم، على رغم تواري الوجوه القديمة التي طالما استفزت الناس بتصريحاتها عن التنمية ومعدلات النمو، في التشكيل الحكومي الذي أُعلن أمس لوزارة الفريق أحمد شفيق.
وليس سراً أن بطء تعامل النظام مع الاحداث منذ الثلثاء الماضي ساهم بقدر كبير في ارتفاع سقف مطالب المحتجين إلى أقصاه، وأن هذه القرارات التي اتخذها الرئيس حسني مبارك لو كانت صدرت قبل أسبوع لما حدث كل ما حدث.
وجاءت التشكيلة الجديدة لتشكل قطيعة مع رجال الأعمال القريبين من نجل الرئيس جمال مبارك الذين هيمنوا على مفاصل الحكومة المستقيلة، في محاولة لإرضاء الشارع الساخط. وبدا لافتاً استدعاء المدير السابق لقطاع السجون محمود وجدي من التقاعد لتولي وزارة الداخلية بدل حبيب العادلي، بعدما صب المحتجون جام غضبهم على جهاز الشرطة الذي أعاد أفراده انتشارهم أمس في بعض الشوارع «على استحياء» وفي حماية القوات المسلحة.
وبدا أن شخصيات بارزة رفضت تكليفها بمناصب وزارية في ظل إعلان التشكيل الحكومي شاغراً من ثلاث وزارات هي التربية والتعليم، والسياحة، والتنمية الإدارية. واستحدث التشكيل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء الذي شغله وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي الممسك بتلابيب الأمور، واحتفظ 14 وزيراً بمناصبهم، معظمهم ليس على صلة مباشرة بالأمور المعيشية.
غير أن المحتجين يرون أنه فات الأوان لتغييرات كهذه، ودعوا إلى تظاهرات مليونية اليوم في محافظات مختلفة. وتوافد عشرات الآلاف منهم على ميدان التحرير أمس. وكان لافتاً ما جاء في البيان الرابع للقوات المسلحة الذي شدد على أن «حرية التعبير بالطرق السلمية مكفولة للجميع»، مشيراً إلى أن الجيش «علي وعي ودراية بالمطالب المشروعة للمواطنين الشرفاء». وتعهد أن قواته «لن تلجأ الى استخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم، وهي الدرع الواقي للشعب».
ورفض «الإخوان المسلمون» الحكومة، معتبرين أنها «التفاف على إرادة الشعب». ودعوا المتظاهرين إلى «الصبر والمثابرة... والتحرك في مسيرات حاشدة في أنحاء القطر المصري كافة حتى يترك هذا النظام كله السلطة، برئيسه وحزبه ووزرائه وبرلمانه». وأعربت الجماعة عن تقديرها للجيش، مؤكدة ثقتها في أنه «سيظل منحازاً إلى الشعب الذي يضفي الشرعية على أي شخص أو برلمان أو وزارة، ولن يستجيب لمحاولات النظام لاستخدامه ضد أهله وإخوانه وشعبه».
في هذا الوقت، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أمس إنه يتابع الأحداث في مصر «بيقظة وقلق» ويخشى أن ينتهي الأمر بقيام نظام إسلامي متطرف مثلما هو الحال في إيران، فيما ناشد الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الغرب تخفيف حدة لهجته العلنية ضد النظام المصري بداعي أنه يجب أن تكون للغرب مصلحة في استقرار الحكم «لأنه يفيد الاستقرار في الشرق الأوسط برمته».
غير أن تصريحات المسؤولين الأوروبيين التقت أمس على الدعوة إلى الانتقال السلمي للسلطة في مصر من خلال اقتراح فتح حوار فوري شامل مع مختلف أطياف المعارضة والمجتمع المصري. وطالب الاتحاد الأوروبي السلطات المصرية باحترام الديموقراطية «والاستجابة لتطلعات الشعب... من خلال وضع إجراءات عملية وحاسمة واتخاذ خطوات حقيقية».
ويبدو الموقف في مصر الآن صراعاً بين قوتين، بينهما شخصيات وجهات سياسية تسعى إلى تحقيق أقصى استفادة من الوضع: الأولى الرئيس ومعه الجيش، والثانية جموع المحتجين في مختلف المحافظات، وفي الواجهة منهم الشباب أصحاب ميدان التحرير الذين ينالون يوماً بعد آخر مناصرين جدداً ينضمون إليهم.
وسعى مبارك إلى تقديم ما اعتبره نزولاً عند رغبة الجماهير، إذ طلب من وزرائه «إعادة ترتيب أولويات الدولة على نحو يعي المطالب المشروعة لأبناء الشعب ويصحح الاعتبارات». وتحدث في خطاب تكليفه للحكومة عن «تحقيق مطالب الشعب على نحو عاجل وتنفيذ سياسات اقتصادية جديدة تراعي معاناة المواطنين» التي غاب الاعتراف بها لسنوات، و «التصدي بكل الحسم للفساد».
كما دعا إلى «المضي على نحو كامل وعاجل وفعال في خطوات جديدة ومتواصلة لمزيد من الإصلاح السياسي دستورياً وتشريعياً»، وهي أمور طالما طالب بها الشارع المصري قبل يوم الثلثاء الماضي، أما الآن فتخطاها الشارع إلى الإصرار على تغيير النظام.
في ظل هذا المناخ يبقى التساؤل: كيف يفكر الرئيس الآن؟ وما المدى الذي قد يصل إليه المحتجون؟ هل يبحث النظام عن مخرج أم يصر على الاستمرار حتى النهاية؟ ولكن ما هي اصلاً تلك النهاية؟ هل يسعى مبارك الى خروج آمن ومشرف فقط أم تفادي مصير زين العابدين بن علي ام يعتبرها معركة عليه أن يخوضها طالما فيه عرق ينبض، وهو التعبير الذي استخدمه كثيراً في خطبه طوال سنوات، وفسر دائماً على نواياه في تمديد وجوده على رأس السلطة؟
كل المعطيات تؤكد اتساع الهوة بين ما يحدث في الشارع وبين طريقة التعاطي معها من جانب النظام الذي استقر على ان مبارك لا يمكن ان يكون رئيساً لمصر بعد تشرين الأول (اكتوبر) المقبل وهو موعد نهاية ولايته الحالية، وأن مشروع التوريث توارى بتعيين نائب للجمهورية وأن الرئيس المصري الذي ظهر مع نائبه وحولهما قادة الجيش يعتبر انه قدّم حتى الآن تنازلات.
وما بين محاولات مبارك البقاء حتى نهاية ولايته لتنتقل السلطة بعدها الى من يليه، وإصرار الشارع على رحيله، يقف الجيش متسلحاً بالحياد في مواجهة المتظاهرين، وإن بدا انه لا يزال ملتزما نظام الحكم. وفي حين يبدي قادته طاعة للقائد الأعلى للقوات المسلحة يسعى في الوقت ذاته الى طمأنة المتظاهرين.