بداية مبشرة.. طلقات رصاص متتالية كانت فى انتظارنا فى الصباح الباكر على
مشارف مدينة "درنة"، معقل الجهاديين، وفقا لوثائق ويكيليكس، والتى اتهمها
القذافى بإشعال ثورة الليبيين، لإقامة إمارة إسلامية فى شرقى البلاد عاصمتها درنة.
"اليوم السابع" اخترق صمت المدينة الهادئة على السواحل الشمالية للجماهيرية
الليبية فى الساعات الأولى من الصباح، ومع سماع دوى الرصاص، دار فى
مخيلتنا ما ذكرته عنها إحدى وثائق ويكيليكس بأنها "منبع الجهاديين فى حروب
العراق وأفغانستان".
اكتشفنا أن طلقات الرصاص التى سمعناها لم تكن سوى طلقات صادرة من مراكز
لتدريب الثوار، بعد لقائنا سراج الشنيب، (32 عاماً) يعمل مترجماً وأستاذاً
للغويات بجامعة عمر المختار الليبية.
وفى ساحة فندق اللؤلؤة على ساحل البحر المتوسط مقر إقامتنا، سرد لنا الشنيب
تاريخ الصراع بين نظام القذافى والجماعات الإسلامية فى تلك المدينة قائلا:
"درنة مدينة محافظة تميل إلى الالتزام بالعادات والتقاليد والأصول، وهذا
لا يعنى أنها إمارة إسلامية، فلدينا مسارح وسينمات والناس تمارس حياتها
بشكل طبيعى".
واعتدل الشنيب فى جلسته، مستنداً بظهره على مقعده قبل أن يضيف: "مدينتنا
تمثل صداعاً مزمناً للقذافى منذ عام 1996 تحديداً عندما قام بشن حملة
اعتقالات وقصف لمناطق جبلية على طول الساحل من رأس الهلال إلى درنة وقال إن
بها جهاديين، وأسفرت عن مقتل العشرات واعتقال المئات مع فرض حظر تجوال،
وكان أشبه باحتلال داخلى".
وقال الشنيب: "منذ هذا التاريخ والقذافى يقتل الشجاعة فينا من خلال أجهزة
الأمن العام، خاصة جهاز الأمن الداخلى الذى يشبه أمن الدولة فى مصر، إضافة
إلى المباحث الجنائية، وكلها كانت تمثل الذراع الطويلة للقذافى، حيث يتم
الاعتقال والقتل بلا أى اتهامات". وأضاف "سوف ترى صوراً لهؤلاء الضحايا فى
ساحة مسجد الصحابة بالمدينة".
وبحماس شديد، أكد أن بداية الثورة فى درنة كانت مبكرة فى يوم 16 فبراير،
حيث خرج مئات من الشباب فى مسيرة حاشدة بشارع الفنار فى اتجاه مبنى الأمن
العام، مطالبة بإسقاط النظام، ورغم إعلانهم أن المسيرة سلمية، إلا أن أجهزة
الأمن قامت بإطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين، وأسفر ذلك عن مقتل 6
أشخاص، مما أدى إلى حالة هياج شديدة بين المتظاهرين فى ظل قيام ثلاثة من
الضباط أعلى المبنى بإطلاق القنابل المسيلة للدموع لتفريقهم إلا أنهم
تمكنوا من السيطرة على المبنى وإشعال النيران بكافة أرجائه، وامتدت المسيرة
إلى مبانى الأمن الداخلى والبحث الجنائى التى كانت رموزا أصلية لقمع
واستبداد النظام.
ثم أشار الشنيب إلى دور كبير قام به منصور الحصادى (48 سنة) من أبناء
المدينة، حيث قام بحشد المصلين بعد صلاة الجمعة للخروج فى مظاهرات حاشدة
تجوب البلاد، مطالبة بإسقاط النظام وصلت إلى ما يقرب من 30 ألف شخص، والتحم
خلالها الجيش مع الشعب وبينهم النقيب عدنان النويسرى الذى أمر جنود كتيبته
بالانضمام إلى الثوار.
وبلهجة حازمة، نفى الشنيب أن تتحول ليبيا فى ظل إصرار العقيد القذافى على
التشبث بالسلطة إلى عراق أو طالبان جديدة قائلا: "لدينا إخوان مسلمون
وجهاديون وهم أصدقاؤنا وأحباؤنا". وأضاف مؤكدا "درنة مدينة متفتحة ولديها
عقل ومرونة كبيرة، ولن تتحول يوما إلى إمارة إسلامية".
اتجهنا إلى مسجد الصحابة الذى شهد انطلاق شرارة الغضب ووجدنا على أعمدته
لافتات مكتوب عليها "لا للظلم بعد اليوم"، وأخرى تدعو الناس إلى مشاركة
الثوار فى طرابلس بعد تسجيل الأسماء داخل المسجد".
والتقينا هناك منصور الحسدى، الذى استقبلنا بهيئة متواضعة ولحية طويلة
نسبيا، وأكد أن درنة مدينة مسالمة يحب أهلها الالتزام، إلا أن هذا لا يعنى
أننا نريد إقامة دولة إسلامية بالمعنى الذى أشاعه القذافى لتخويف الغرب حتى
يبقى مسيطراً على البلاد، ووضع العالم بين خيارين، إما الإسلاميين أو
الديكتاتوريين وإما القمع أو الفوضى.
وأضاف الحسدى: "سجنت 5 سنوات فى سجون القذافى والشباب شجعونا على الخروج فى
يوم الثورة، فهذه ثورة شباب ولا يستطيع أحد أن ينسبها لنفسه"، لافتا إلى
مذبحة بوسليم التى قال إن النظام نفذها ضد 1200 من سجناء المعارضة فى يوينو
1996 وقام بدفنهم فى ساحة السجن وردم عليهم بالأسفلت بينهم 98 من أبناء
درنة تملأ صورهم جدران مسجد الصحابة.
وتجولنا فى ساحة المسجد، حيث تم دفن 11 شهيداً من ضحايا المواجهات مع أجهزة
الأمن أثناء ثورة 17 فبراير إلى جوار مدافن عدد من الصحابة والتابعين ممن
تم دفنهم فى ساحة المسجد منذ قرون طويلة.
وقال عاشور أبو راشد (66 سنة) محام ذو اتجاه ليبرالى وأحد القادة
الاستشاريين لمجلس المدينة الانتقالى: إن هذه الثورة غيرت كثيراً من
العقول، وهذا أهم تغيير، فنحن لم نعد ننظر إلى انتماءاتنا واتجاهاتنا بقدر
ما يهمنا أن نشارك جميعا فى بناء وطننا". مضيفا "جيلنا جيل الخوف".
وقال أبو راشد: "فى ظل هذا النظام الديمقراطى الجديد لابد لكل فرد من دور ولابد أن يسمع كل رأى وفى النهاية سيكون هناك حوار".
إلى جواره كان أحد رجال الدين يدعى شكرى عبد الحميد قضى بالسجن 10 سنوات
وقال: "نريد دولة مدنية وتعددية مع حرية يحكمها القانون". مضيفا: "التطرف
كان رد فعل للظلم وعنف الدولة، أعطونا الحرية وانظروا ماذا نفعل".
ويقول مروان سعود – صيدلى- "كثير من الناس هنا علمانيون يؤمنون بالحريات
وثورة ليبيا صغيرة السن وبعض السكان يحذرون من تنامى دور الإسلاميين
الأصوليين إذا استمرت طويلا وأضاف: "يوجد إسلاميون هنا، دعهم يشكلون حزبا
ولنرى ماذا سيكون لأن هذا حقهم فى حرية التعبير".
وأثناء جولتنا بالمدينة رصدنا آراء شخصيات علمانية، منها المهندس إبراهيم
بلعيد، الذى قضى سنوات عديدة فى أمريكا ويصر على حق الإسلاميين فى تشكيل
أحزاب، وبداخل مسجد الصحابة مركز انطلاق الثورة، رأينا شعارات مجردة من
المشاعر الدينية بشكل ملحوظ تطالب بـ"الحرية والكرامة والوحدة الوطنية"
وأخرى تؤكد "ليبيا واحدة وعاصمتها طرابلس".
كما تركزت المطالب فى تشكيل حكومة انتقالية، ووضع دستور للبلاد وإجراء
انتخابات برلمانية ورئاسية وإقامة دولة ديمقراطية تقوم على التعددية،
والتداول السلمى للسلطة، وسيادة القانون وضمانات حقوق الإنسان وحماية
الحريات، وهى نفس المطالب التى طالب بها ثوار مصر وتونس.
مراسل "اليوم السابع" داخل ساحة المسجد
بعض أهالى درنة يتفقدون صور شهداء الثورة ومذبحة سجن بوسليم
بعض أهالى درنة يتفقدون صور شهداء الثورة ومذبحة سجن بوسليم
مقبرة شهداء الثورة بساحة المسجد
منصور الحسدى يتحدث لـ"اليوم السابع"
ملصقات تطالب بالحرية والكرامة ورحيل القذافى
مبنى الأمن العام وعليه كتب الثوار مقولة عمر المختار الشهيرة "ننتصر أو نموت"
مبنى المباحث الجنائية
مبنى الأمن الداخلى الذى استبد بالعباد والبلاد فى ليبيا